الصفحة العربية الرئيسية

الأربعاء، يوليو 20، 2011

الثورة الإيرانية: حسابات الثلاثين العام


 يذكرني حديث الثورة والثوار هذا أحد محاضرات الدكتور. حسن الترابي في جامعة الخرطوم عندما وصف حال الأحزاب التقليدية في السودان قبيل خروج الاستعمار الإنجليزي من السودان ببرنامجها الوطني المتمحور حول قضية الاستقلال والســـودنة، ولكنها ما إن خرج الاستعمار من البلاد حتى فقدت قضيتها الرئيسية وخوى برنامجها من كل محتوى وأضحت بذلك أحزابا بلا برنامج ثم استحالت من بعد ذلك إلى ما يشبه فرق  كرة القدم!!

كذلك هو حال الثورات في عالمنا أو كتلك هي برامج الثورات لدينا حينما انطلقت جميعها رافعة شعار الوطنية والتحرر من عملاء الاستعمار والهيمنة السياسية وتحرير القرار الوطني واستغلال الثروة لصالح الوطن والمواطن والدفاع عن استقلالية وكرامة الإنسان..

غير أن ثوراتنا تفقد خارطات العمل وتتوه بعد سنوات قليلة من الاستيلاء على السلطة في منتصف الطريق بوتيرة تؤشر لضياع المباد الموجهة  وعدم احتواء  هذه الحركات على أوعية فكرية وبرامج تحول اقتصادي واجتماعي وسياسي وعلمي غير الشعارات البراقة عن محاربة الاستعمار والعمالة والعملاء، فينتهي – بذلك - أثر الثورة بمرور الزمن ويتحول لضرب من ضروب الانقلابات المعهودة التي تستبدل نظام حكم بنظام حكم آخر..

هذه المقارنات يبعثها احتفالات الجمهورية الإيرانية هذه الأيام بمرور ثلاثين عاما على انطلاقة الثورة الإيرانية التي قادها الإمام الخميني.

الإمام الخميني الذي أطلق ثورة عقائدية رأى البعض فيه – رغم عقائديته – أنه أضاع سانحة نادرة لإسقاط مرجعية ولاية الفقيه من واقع الممارسة السياسية الإيرانية لما كان يتمتع به الإمام من ثقل وموثوقية لدى قطاعات الشباب آنذاك، ولكنه استبقاها لتشكل بمرور الزمن مرتكزا فلسفيا شيعيا حاكما وحارسا للثورة ومبادئها وشاهدا مستمرا على عدم اكتمال جسم الديمقراطية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية...

فولاية الفقيه أو المرجعية تقوم كمؤسسة موازية لكل أدوات الحكم في البلاد وتتجدد بشكل لا يستند للتفويض الجماهيري، ووجودها يجعلنا دائما نقارن النموذج الخميني الإسلامي بالنموذج الأتاتوركي العلماني على النقيض إذ المؤسسة العسكرية والعلمانية في تركيا تفسدان بحجة الدفاع عن مباد أتاتورك العلمانية أجواء الحرية والديمقراطية، وفي الطرف الآخر فإن المرجعية الدينية العظمى في إيران هي الراعي لمباد الثورة الإسلامية في إيران ويبقى حال الديموراطية منقوصا في كلا النموذجين والحرية مشروخة في كليهما.

ومع ذلك تبقى الثورة الخمينية ذات دلالات نوعية فارقة كونها ارتكزت في قيامها على عنصر الشباب من الجنسين وما تزال تولي دور المرأة في البناء العام أولوية كبرى وتهتم بفئة الشباب وتنمية الوعي العام بينهم.

هذه الثورة التي أطبق عليها الحصار من قبل الولايات المتحدة والغرب طوال سنوات عمرها الثلاثين ومن قبل المحيط الإقليمي العربي، والعديد من حلفاء أمريكا استطاعت أن تشق طريقها عبر كل هذه التحديات ونجحت في رهانات عديدة لعل أهمها تجربة الحكم و تبادل السلطة على نحو سلمي يستمد التفويض المباشر من الجماهير.

هذه التجربة الديمقراطية لا تعجب الكثير من النقاد السياسيين لعقائديتها ولكنها على ماذكرت تمثل نموذجا فريدا  في العبور من فكر الثورة والشعارات والصدام إلى فكر الدولة والمؤسسات.

وليس يخفى على ذي عقل ما بلغته الجمهورية الإيرانية من تطور في مفهوم الدولة وفكر المؤسسات وقيام الأجهزة القضائية المستقلة عن الأجهزة التنفيذية للدولة ورغم سيطرة المجموعات اليمينية عليها - وهي في ذلك أيضا تذكرنا بحال المحكمة الدستورية في تركيا على النقيض أيضا -  إلا أن المحمدة الكبرى تتمثل في مرجعية المحكمة على كل أجهزة الدولة التنفيذية بما فيها رئيس الدولة.

ويعد هذا مؤشرا نوعيا هاما يستنكف الكثيرون الاعتراف بقيمته وتتعدد أسباب الرفض للنموذج الإيراني دوليا وإقليميا فالغرب الذي يعادي إيران لا يعنيه عجز التجربة الديمقراطية الإيرانية عن الكمال ولا شأن الحريات هناك بقدرما يؤرقه مباد الثورة الإسلامية وموقف الجمهورية الثابت من إسرائيل.

والبلاد العربية التي ظلت تناصب إيران العداء بإيعازات تأتي هي الأخرى من وراء المحيط الهادي لا تملك مبررا عمليا لذلك غير طموحات إيران الفارسية في السيطرة على المنطقة ونشر أسلحة الدمار الشامل.

وتبقى الدلالت الجازمة بجدية التجربة الإيرانية هي قيام المؤسسات البحثية والعلمية بدورها بشكل نشط وحيوي ومستقل، وإدراك القيادات الإيرانية المتعاقبة لحيوية وأهمية البحث العلمي ودوره الحاسم في صناعة الفارق التنموي والتكنولوجي في البلاد بالإضافة للوجه الآخر المتمثل في بناء القدرة العسكرية. حيث قامت الإستراتيجية الإيرانية على دعم البحث العلمي ورعايته واستثمار ثروات البلاد في تنمية البنى العلمية وتأسيس دور العلم بالإضافة لعمليات البناء المعنوي والتعبوي العام والذي ظلت تمارسه إيران في الدعاية والتبشير بمباد الثورة وقيمها ولكنها بحال من الأحوال لم تنكفي وتكتفي بالشعارات والعناوين الجوفاء.

ولو كانت تواريخ الثورات تتحاكم لحجم الإنجازات التي بشرت بها وقامت من أجلها فإن الثورة الإيرانية تمثل المعيار الناجح للثورات كلها، وليس أدل على ذلك من سير الجمهورية في خطوط متوازية في كل المجالات وبوتيرة ثابتة تنم عن عقلية براغمتية مدركة للمطلوب وكيفية الوصول إليه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعلميا، فلم يختصر رهان إيران على التجربة الديمقراطية – الناجحة نسبيا - فحسب فكانت ثورتها في مجال البحث والتكنولوجيا الدقيقة ونجاحاتها في تطوير أبحاث الطاقة النووية وما لذلك من أثر على أوجه الحياة المدنية والتقنيات العسكرية، في ذات الوقت تطورت قدرات إيران في مجال الطب والهندسة الوراثية على وجه الخصوص إذ شهد العالم قيام الباحثين الإيرانيين بعملية إستنساخية يندر توقعها في عالمنا الذي نعيش فيه، علاوة على تطوير إيران للطائرات الحربية وتطوير قدراتها الصاروخية بقدر مكنها من حمل قمر صناعي للفضاء، وبتحليق القمر الصناعي الإيراني في الفضاء تصمت كل الأفواه، إذ  لم يعد ممكنا منذ الآن تصنيف إيران علميا مع الصغار..

إن الأفعال هي التي تنطق عن قدرات الأمم، والحضارات هي التي تشهد على بناتها...

هذه هي الثورة لو كان تاريخ الثورات يتحاكم للوفاء بالوعود..

ولو كان تاريخ الثورات يتحاكم لما أنجزته الثورة في فكر الإنسان فقد طورت الثورة الإيرانية في الشعب الإيراني العقلية الجمعية التي تصنع التغيير.

ويبقى الإنجاز الأكبر الذي أسس لكل هذه الفروع هو ثبات الرؤية السياسية الحاكمة للبلاد بحيث لم تتأثر كل هذه المسارات جراء الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التي مرت بها البلاد..

ولو قارنا ثورة الخميني وهو مفكر إسلامي في العام 1979 بثورة الترابي وهو الآخر يتبنى الفكر الإسلامي في طرحه العام 1989 لوجدنا أن عمر الثورتين بفارق عشر سنوات يعد متقاربا جدا غير أن الثورة الإيرانية كانت تنبع من عقلية ترغب في التغيير والبناء من الداخل وهي بحق ثورة فكرية جادة لنجاحها في التحول للمؤسسية والرهان على بناء الإنسان والاعتماد على العلم والعمل المستمر الهادي بمهنية وواقعية بعيدا عن الصخب والفرقعات الإعلامية من أجل صناعة الفارق، بيد أن ثورة الترابي تأتي على العكس من ذلك، فهي لم تعدو كونها انقلابا عسكريا بكل المقاييس الاصطلاحية والسياسية.

انقلاب هدف إلى الاستيلاء على السلطة ولم  ينطوي على أي أساس فكري غير المصالح الشخصية وحب السيطرة والظهور وعدم الجدية في البناء واستنفاذ الوقت كل الوقت في محاربة الشعب وقواه الحية ومصادرة الحريات العامة وتمكين الأتباع، ففسد أمر الدولة وعم الفساد والمحسوبية والعنصرية والظلم، وكان اسمهم إسلاميين!!!.

إسلاميون يحملون عن الدين قصصا وحكايات وشعارات..!!

إسلاميون يستبيحون الحقوق ويصادرون الحريات..!!

إسلاميون ينشرون الظلم حتى اشتبه البسطاء في سلطة الدين!!

ولست متحمسا لمقارنة الثورة الإيرانية بثورات أخرى عديدة مثل ما كان عليه شأن الثورة المصرية إبان عهد ناصر وما بلغته مصر بعد الثورة وحتى اليوم.

إن الثورة الإيرانية اليوم تحتاج لوقفة احترام وتبجيل بعد مرور هذه السنوات القليلة في عمر الشعوب، وإلى دعوة صادقة لإفساح الحريات العامة  بشكل أكبر مما هو عليه الآن في ظل التوجهات الديمقراطية الموجودة، من أجل تحقيق الثنائية  المثالية بين بسط الحريات ونشر قيم الديمقراطية.

و هي المطلوب الأسمى  لكل نهضة شاملة وهي الضامن الوحيد لتأمين الثورة وحمايتها من كل خطر..

غير ذلك فمن القلب نقولها للثورة وللشعب الإيراني: برافوو.....!

طرابلس – ليبيا

جنزور الغربية

   

ليست هناك تعليقات: